عرض المقال
ساعة ونص من المتعة والشجن
2012-10-06 السبت
وجدان مصر لن يختطف، مادام هذا الحشد الفنى موجوداً وما دام هذا الإبداع متوهجاً، هذا ما قلته وظللت أردده بعد خروجى من العرض الخاص لفيلم «ساعة ونص»، وسط هذا المناخ الكئيب الذى تحوم فيه خفافيش الظلام فى محاولة مستميتة لنهش قلب ووجدان وعقل هذا الوطن الذى لايستحق هذا التحجر وهذه الغلظة، خرجت علينا حدوتة عن بشر فى قطار ترجمها البعض بعفوية إلى بشر فى وطن، انقلب القطار ونرجو ألا ينقلب الوطن، تمزقت الأجساد وبترت الأطراف ونتمنى ألا نتحول إلى أشلاء وطن.
معزوفة جميلة مفعمة بالشجن، كتبها السيناريست أحمد عبدالله الذى أصبح متخصصاً فى قهر اللوكيشن الواحد الضيق بحدوده الرحب بشخصياته وعالمه منذ «كباريه» حتى قطار «ساعة ونص»، وقاد أوركسترا الإ بداع فيها المخرج وائل إحسان الذى لم نكن نظن أنه يستطيع انتزاع دموعنا بهذه المقدرة الفذة كما انتزع ضحكاتنا من قبل، ظلمته بعض الأفلام التجارية من قبل ولكنى كنت أراهن دائماً على أن جعبته الفنية ما زال فيها الجديد والجديد من السحر والتألق.
رحلة قطار «ساعة ونص» بالتمام والكمال وهى مدة الفيلم بالضبط بعد نزول التيترات إلى نهايته وهى بالطبع مأزق صعب وضع فيه المخرج نفسه وتحدى وكسب التحدى خاصة أن الحيز الذى سيتحرك فيه ضيق ذكرنى بأسانسير صلاح أبوسيف والصعوبة التى واجهها، قطار يحمل الحلم والأمل والانتظار، تركبه عجينة مصرية مركبة من كافة أطياف البشر وتنتظر على محطته أيضاً ألوان وأشكال وملامح حتماً ستواجهها فى لحظة ما من حياتك، الأم التى تنتظر فلوس صندوق الزمالة لكى تعيش فى زمن بخيل ضنين بأى متعة بعد رحيل زوجها، وصراعها مع ابنتها التى تنتظر هى الأخرى الانقضاض على الفتات لأن تروس الحياة هرستها هى الأخرى فى عز الشباب، الصول الذى أدى دوره بمنتهى الاقتدار والتألق ماجد الكدوانى وهو فى كلبش واحد مع شاب عاش فترة فى السويد وتخيل أنه هبط مصر محملاً بنسائم حرية السويد، فقبّل صديقته الأجنبية فى الشارع فأُخذ للتحرى، العسكرى مقيد بكلبش آخر هو كلبش أخته العانس التى لا بد أن تزاح وتتستر!.
خريج كلية الآداب أياد نصار الذى كان يهتف فى المظاهرات أثناء الجامعة وصار الآن مجرد بائع سريح لرسائل الحب يروج لكاتب متواضع ردىء بكتابة اسمه على الحيطان!، يقرأ الورقة فى المشهد الماستر سين والتى أعطتها له السيدة العجوز أملاً فى الوصول إلى ابنها الذى تركها فى محطة القطار، أبكتنا كريمة مختار وكأننا نبكى على أنفسنا وكانت المفاجأة حين عرفنا أن الورقة مكتوب فيها لمن يجدها أن يتركها فى بيت المسنين!، والدهشة الأكثر حين وجهت الأم اللوم لنفسها بأن السبب هو كثرة طلباتها والإلحاح فيها!.
نماذج متعددة وكل نموذج فيها يوجعك فى جانب ويؤنبك فى جانب آخر ويجعلك تغوص فى الكرسى خجلان من أن تضبط نفسك متهماً بأنك هذا أو ذاك!، الطبيبة الريفية المتزوجة من شخص محدود التعليم يغير عليها وأحياناً منها ثم تضطره المواقف والأزمات داخل القطار للفخر بها لخصها البارع فتحى عبدالوهاب فى نظرة عين صامتة مفعمة بكل المعانى لا تنسى، بائع الشاى الذى تتلخص حياته فى ابنه الصغير الذى على وش مدارس بعد وفاة أمه، العائد من ليبيا بأحلامه المجهضة والتى تتلخص فى قيمة الدينار بالنسبة للجنيه والتى دفنت معه فى القطار، أما من هم على هامش الرحلة فهم الأم صاحبة الكشك هاله فاخر التى تنتظر أن يرى الأب ابنها المعوق نفسياً ولكن القطار فاته فلم يره ولن يراه، عامل الفلنكات الغلبان المهموم والذى أداه أحمد بدير بجمال وإبداع ومزاج وزوجته الشرهة والتى تبحث عن النشوة مع أى عابر سبيل أو قاطع طريق لتعيش تمثيلية متعة مزيفة، أما سارقو القضبان الذين يزينون لنفسهم أن ما يفعلونه لن يؤدى إلى انقلاب القطار لأن العامل سرعان ما سينبه القطار من خلال كبسولات القضبان، لكن العامل قد قتل فى مشهد عبثى وبيد واحد منهم!.
«ساعة ونص» أبدع فيها الجميع وتألق فيها الكل، وكان تصوير سامح سليم موسيقى تعزف وتتناغم، وكانت موسيقى ياسر عبدالرحمن كاميرا ترصد وتترجم وتشحن، شكراً لصناع الفيلم ومنتجه وفريق العمل على هذه المتعة وهذا الشجن.